تلعب تقنيات الأتمتة مثل التعلم الآلي والروبوتات دوراً كبيراً بشكل متزايد في الحياة اليومية، وأصبح تأثيرها المحتمل في مكان العمل، محوراً رئيسياً للأبحاث والاهتمام العام.
والأتمتة هي استخدام الكمبيوتر والمعالجات والبرمجيات في القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية، من أجل توظيف التشغيل الآلي الدقيق والسليم وبأقل خطأ ممكن.
وبدأت أولى موجات الأتمتة في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مع اهتمام المصانع بتركيب تجهيزات يمكن التحم بها الكترونياً، ما أدى لزيادة فعالية الإنتاج وخفضت تكاليف الأيدي العاملة.
ومع تسارع التطور التقني، والاعتماد على الذكاء الاصطناعي، باتت التجهيزات والآلات المتطورة قادرة على تنفيذ المهام الصناعية بدقة وسرعة عاليتين، فهل تقضي الأتمتة على مهاراتنا البشرية؟ وهل ستحل محل الإنسان في سوق العمل وتؤدي إلى القضاء على العديد من المهن؟
في خمسينات القرن الماضي توصل الأستاذ في مدرسة هارفارد للأعمال جيمس برايت من خلال بحث أجراه على تأثير أتمتة المصانع على البشر، أن التجهيزات التقنية ستضعف مهارة الإنسان وكفيلة لأن تحول العامل الماهر لمجرد شخص يقوم بضغط زر للتحكم بالآلات.
ما هي إمكانات الأتمتة داخل القطاعات؟
عند مناقشة الأتمتة، لا بد للإشارة إلى إمكانية أن يكون النشاط مؤتمتاً من خلال تبني التقنيات المتاحة، فكل مهنة تتكون من أنواع متعددة من الأنشطة التي تتمتع بدرجات متفاوتة من الجدوى الفنية.
وتعد الجدوى الفنية شرطاً ضرورياً للتشغيل الآلي، ولكنها ليست مؤشراً على التحول إلى الأئتمتة، فهناك عامل آخر يجب مراعاته هو تكلفة تطوير الأجهزة والبرمجيات.
كما يجب الأخذ في عين الاعتبار تكلفة العمالة وديناميات العرض والطلب، وفوائد الائتمتة المتمثلة بمستويات إنتاج أعلى، وجودة أفضل، وأخطاء أقل، بالإضافة إلى موازنة القضايا التنظيمية والقبول الاجتماعي، أي درجة قبول الآلات في بيئة معينة.
نظرياً، قد تكون الروبوتات قادرة على استبدال بعض وظائف مهنة التمريض، على سبيل المثال، لكن بالوقت الراهن، احتمال حدوث ذلك غير محبب للعديد من المرضى الذين يفضلون التواصل البشري.
الأتمتة وتوظيفها في القطاعات المختلفة
في حين أن الأتمتة ستقضي على مهن قليلة في العقد المقبل، فإنها ستؤثر على أجزاء من جميع الوظائف تقريباً بدرجة متفاوتة تبعاً لنوع العمل.
ويمكن توظيف التعلم الآلي، الذي تجاوز الآن نشاطات التصنيع الروتينية، في قطاعات مثل الرعاية الصحية والتمويل، أو تلك التي تتخذ طابعاً معرفياً.
ويمكن أن تؤدي التقنيات المتاحة اليوم إلى أتمتة 45% من الأنشطة التي يقوم بها الأفراد لقاء مبلغ معين، وهذا يعني أن حوالي 60% من جميع المهن يمكن أن تشهد أتمتة 30% أو أكثر من أنشطتها.
واستبدال البشر بالآلات في بعض المهن، لا يعني بالضرورة القضاء على الوظائف، بل على العكس، فعددهم يزداد أحياناً في المهن التي كانت مؤتمتة جزئياً، لأن الطلب العام على أنشطتها المتبقية استمر بالنمو.
الأنشطة الأكثر أتمتة
يقضي الموظف في أمريكا حوالي خمس الوقت في القيام بأنشطة بدنية أو تشغيل الآلات ضمن بيئة يمكن التنبؤ بها، ويظهر ذلك بشكل بارز في قطاعات التصنيع والخدمات الغذائية وتجارة التجزئة، والتي تقدر الجدوى التقنية فيها 78% ما يجعلها أكثر عرضة للأتمتة.
في مجال التصنيع، يمثل تنفيذ الأنشطة البدنية أو تشغيل الآلات في بيئة يمكن التنبؤ بها ثلث الوقت الإجمالي للعمال، بينما في قطاع الخدمات (الإقامة والطعام) ينطوي نصف وقت العمل تقريباً على أنشطة بدنية يمكن التنبؤ بها وتشغيل الآلات، وعليه 73% من الأنشطة التي يؤديها العاملون في الخدمات الغذائية وأماكن السكن لديهم القدرة على التشغيل الآلي، استناداً إلى اعتبارات تقنية.
وتعد تجارة التجزئة قطاع آخر ذو إمكانيات تقنية عالية للأتمتة، فحوالي 53% من أنشطتها قابلة للتنفيذ التلقائي، مع الأخذ بالاعتبار المهنة المحددة داخل القطاع.
قطاعات في النطاق المتوسط للأتمتة
في جميع المهن في الاقتصاد الأمريكي، ينطوي ثلث الوقت الذي يقضيه الموظف في مكان العمل على جمع ومعالجة البيانات، ويتمتع كلا النشاطين بإمكانية تقنية للأتمتة تتجاوز 60%.
وعملت شركات عدة على أتمتة أنشطة مثل إدارة المشتريات، وحساب احتياجات الموارد المادية..، ومع التقدم التقني زاد استخدام الكمبيوتر من حجم ونوعية هذه الأنشطة.
والتكنولوجيا المالية مثال حي على ذلك، فنجد حوالي نصف من الوقت الإجمالي للقوى العاملة بالتمويل والتأمين مكرس لجمع ومعالجة البيانات، وعليه تكون الإمكانيات التقنية للتشغيل الآلي بهذه القطاعات عالية.
ومن جهة أخرى، يقضي وسطاء الرهن العقاري معظم وقتهم (90%) في معالجة الطلبات، ويمكن أن يؤدي وضع عمليات تحقق أكثر تطوراً للوثائق وتطبيقات الائتمان إلى تخفيض هذه النسبة إلى أكثر من 60% فقط، ما يساعد مستشاري الرهون العقارية قضاء وقت أكبر في تقديم المشورة للعملاء بدلاً من المعالجة الروتينية.
الأنشطة ذات إمكانيات التشغيل الآلي المنخفضة
إن أصعب الأنشطة التي يتم البحث في أتمتتها وفق التقنيات المتاحة حالياً، هي تلك التي تشمل إدارة وتطوير الأشخاص (إمكانية الأتمتة 9%) أو التي توظف الخبرة في صنع القرار أو التخطيط أو العمل الإبداعي (إمكانية الأتمتة 18%).
هذه الأنشطة، التي تتخذ طابع معرفي، يمكن أن تكون متنوعة مثل برامج الترميز، أو إنشاء القوائم، أو كتابة المواد الترويجية.
حالياً ، يقوم الكمبيوتر بتسيير أنشطة محددة بشكل جيد، مثل تحسين مسارات النقل بالشاحنات، لكن البشر لا يزالون بحاجة إلى تحديد الأهداف المناسبة أو تفسير النتائج.
وتتجلى أهمية التفاعل البشري في قطاعين يتمتعان حتى الآن بإمكانيات فنية منخفضة نسبياً للتشغيل الآلي: الرعاية الصحية والتعليم.
بشكل عام، تتمتع الرعاية الصحية بإمكانيات تقنية لأتمتة حوالي 36%، لكن الإمكانات أقل للمهنيين الصحيين الذين تتطلب أنشطتهم اليومية خبرة وتواصل مباشر مع المرضى.
والجدوى التقنية للأتمتة تبلغ أدنى مستوياتها في قطاع التعليم، على الأقل في الوقت الحالي، وقد تساعد أتمتة أنشطة جمع ومعالجة البيانات على تقليص النفقات الإدارية للعملية التعليمية دون التأثير على جودتها.
ختاماً مع تطور التكنولوجيا، ستعمل الروبوتات والتعلم الآلي على تحقيق تقدم أكبر في الأنشطة التي لا تملك اليوم إلا إمكانية فنية منخفضة للأتمتة، وستمهد التقنيات الجديدة لتعاون أكثر أماناً وأكثر فعالية بين الروبوتات والبشر في بيئات تعتبر الآن غير متوقعة.