تعمل الصين في الآونة الأخيرة على خطة تغير كبيرة تشمل هيكلية جديدة لاقتصادها، فمن جهة تنتقل البلاد من اعتمادها على الصناعات الثقيلة بشكل أساسي، إلى التركيز على التكنولوجيا والخدمات والاستهلاك. وتسعى بلد المليار مواطن، في الطرف المقابل، لتوسيع نفوذها في العالم، عبر مجموعة من الاستثمارات الكبيرة التي تتوزع في أنحاء القارات الخمس.
تتجه الاستثمارات الصينية إلى مناطق أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا الوسطى وجنوب شرق أسيا، وصولًا إلى منطقة الشرق الأوسط وتقول صحيفة فايننشال تايمز أن حجم الاستثمار الصادر من الصين سيتجاوز قريباً الحجم المستثمر داخل البلاد نفسها، الأمر الذي ينبئ بصعود قوة اقتصادية جبارة قد تتجاوز نظيراتها في العالم الغربي، لتصبح مصدراً مهمًا لرأس المال وللائتمان في العالم النامي.
لكن الصين وبالرغم من طموحها الجامح، مازالت تفكر بمركزية تساعد في إعادة فوائد استثماراتها إلى أرض الوطن، إما عبر الموارد الطبيعية التي تستهدف السيطرة عليها في بلدان الاستثمار، أو عن طريق ربط كل العالم بها على اعتبارها مركز تجارة حيوي. وليس ببعيد عن هذا الهدف، إطلاق مشروعها ” طريق الحرير الجديد” الذي يمتد شرق أوروبا ليوحّد قرابة 65 بلداً من خلاله، مما يساعد في تشكيل خارطة جديدة تكون الصين فيها المستثمر الأقوى والأبرز على المستوى العالمي.
وعليه سيكون الحضور الصيني العالمي أمرًا واقعًا في القريب العاجل، فالمسالة مسألة وقت لا أكثر! هذا ما يقوله على الأقل تشانغ شيانغ تشن، مساعد وزير التجارة الصيني، لكن المسؤول الرفيع المستوى يهمل في حديثه آثار التحول الاقتصادي التدريجي الذي سيكون له تأثير كارثي على البلاد، ففي بحث أكاديمي لجامعة بيكين وجد أن الصين تحولت لواحدة من أكثر البلاد تفاوتًا من حيث توزيع الثروة، حيث يسيطر واحد بالمائة فقط من أغنى الأشخاص على ثلث ثروة البلاد. كما أن الصين مازالت بلدًا ناميًا مع وجود ما يقارب 600 مليون شخص يشكلون 44 بالمائة من السكان في مناطق ريفية متخلفة في مقياس التمدن.
ماهي حقيقة الاستثمارات الصينية؟
وصل حجم الاستثمار الصيني خارج الحدود إلى حوالي 870 مليار دولار أمريكي مع نهاية العام الماضي، وذلك وفقاً للبيانات الصادرة عن مؤسسة التراث للأبحاث الأمريكية، كما تزايدت أهمية البلاد على صعيد الاقتصاد العالمي باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر منتج للسلع التجارية، الأمر الذي دفع باتجاه تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية الصينية خلال السنوات الأخيرة.
ولعل الحصة الأكبر من هذه الاستثمارات كانت في قطاعات الاستثمار العقاري وشركات التعدين والطاقة، وفي أسواق عالمية مفضلة لدى الصين مثل استراليا حيث بلغ مجموع الاستثمار الصيني في شركات التعدين التابعة لها أكثر من ثلاثين مليار دولار.
وبحسب تصريحات اليستير ميدوز، المهتم بمتابعة رأس المال الدولي في منطقة آسيا والمحيط الهادي ضمن صحيفة فايننشال تايمز، فإن ما يقرب من نصف الاستثمارات في جميع أنحاء العالم، كانت في قطاع الطاقة الذي تبحث عنه الصين بوتيرة متنامية ففي عام 2013، مثلًا استوردت البلاد ما يقرب من 60٪ من احتياجاتها من النفط و30٪ من الغاز.
توزعت هذه الاستثمارات في دول عدة بدأت بأنغولا الإفريقية عام 2004 عندما تم الاتفاق على البرنامج الصيني للاستثمارات مقابل حصولها على احتياطات النفط الهائلة من أراضيها، وأصبحت الصين بعدها شريكاً تجاريا بلغت قيمة استثماراته 20 مليار دولار في البنية التحتية في إفريقيا جميعها وليس فقط في أنغولا.
لكن التدخل الصيني في عدة بلدان افريقية انتهى بأزمات ديون كبيرة كما حصل في تشاد والنيجر اللتين فاق حجم ديونها المستحقة للصين أكثر من 15 مرة حجم ديون صندوق النقد الدولي، أما في دولة سيراليون فكان التدخل من باب مكافحة الايبولا ، قبل أن تصبح النتيجة سلبية بالمحصلة على السكان المحليين في عموم القارة حيث بدأت فرص العمل تتقلص أمامهم، لصالح الصينين.
تجاوزت الاستثمارات الصينية افريقيا لتصل إلى أمريكا الجنوبية التي كانت ملاذاً أرادت الصين من خلاله أن تبدو كالمنقذ الأمثل للدول التي تعاني من اضطرابات كثيرة في المنطقة، فمع المساعدة الصينية ستنتهي أزمة الديون في فنزويلا والأرجنتين، إلا أن هذه المساعدات المالية المقدمة كانت ثمناً لاستثمارات ضخمة في الموارد الطبيعية الهائلة التي يحتاجه نمو الصين الاقتصادي.
أما في آسيا فالصين هي المستثمر الأكبر في كل من باكستان وبنغلاديش، كما بلغت استثماراتها في الشرق الأوسط قيمة 55مليار دولار، في سبعة أعوام معظمها موجه لمشاريع الطاقة. وفي دولة الإمارات العربية كانت الاستثمارات في اوجها خاصة في القطاع العقاري التي استثمرت الصين فيه ما يقارب الثلاثة مليارات دولار، وبنسبة تبلغ 6.2% على أساس سنوي في الربع الأول من 2016.
لقد ساعد تسارع النمو في مساحات الأراضي الإمارتية المباعة في تحقيق استراتيجية الصين، عندما بلغت نسبة التسارع 33.1 بالمائة، في الوقت الذي أشار فيه المكتب الوطني للإحصاءات أن الصين زادت من استثماراتها خلال أول شهرين من العام الحالي بنسبة 3 بالمائة ضمن قطاع العقارات.
لا ننسى أن اليابان والهند تعتبران من الدول المنافسة للصين، في سيطرتها الاقتصادية في آسيا، كما تلعب النزاعات الإقليمية على جزر سينكاكو، وأرخبيل الصخرية في بحر الصين الشرقي، دورًا في زيادة حدة المواجهة مع انخفاض التجارة بين الصين واليابان بنسبة 4٪، بعد الحدث للمرة الأولى في ثلاث سنوات. ومع التغيرات الأخيرة في المشهد السياسي العالمي سارعت الصين إلى التوجه أكثر نحو الشرق الأوسط لتحقيق فرص استثمارية جديدة في البلاد العربية.
الصين والشرق الأوسط
بدأت الصين تولي أولوية واهتماماً لبرنامج استثمارها في منطقة الشرق الأوسط، حيث تتجه نحو المنطقة العربية من أجل الحصول على الطاقة التي تعد أحد المرتكزات الأساسية في السياسة الاقتصادية الصينية، ما شكل فرصة لاتساع آفاق التعاون الاقتصادي بين البلاد العربية والصين.
وظهرت الاشارات الأولى لهذا التوجه مع الزيارات المتبادلة التي قام بها عدد كبير من الزعماء العرب إلى بكين وبالعكس، انتعشت على إثرها العلاقات المصرفية بعد حصول أكبر بنك في البلاد (البنك الصناعي والتجاري الصيني) على ترخيص بإنشاء فرع له في الرياض، تحولت معه السعودية إلى الشريك الأكبر والوجهة الاستثمارية الأكثر أهمية للصين في المنطقة. ثم افتتح البنك فروعاً له في كل من أبو ظبي ودبي والدوحة والكويت، وشكل جسرا ورابطاً للتبادل الاقتصادي والتجاري.
وتتالت المبادرات من جديد مع الإعلان عن تنظيم مؤتمر مصرفي عربي صيني في مقاطعة نينجا الصينية، في سبتمبر 2016 بالتعاون مع البنك المركزي الصيني، بهدف تنسيق العلاقات المصرفية والتشريعات والتسهيلات القانونية المحفزة، لفتح فروع للمصارف العربية في الصين.
يذكر أن الصين قد أطلقت للمرة الأولى في يوليو 2014 مع دول مجموعة البريكس إعلانها الذي يهدف إلى تأسيس بنك يحمل تسمية “البنك الجديد للتنمية” كبديل مستقبلي عن كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو منافساً له، بحيث يكون أداة اقتصادية وسياسية بيد دول البريكس الخمسة.
حيث تبلغ قيمة رأسمال البنك الجديد 50 مليار دولار مع توقع وصوله إلى مئة مليار دولار أو أكثر خلال السنوات المقبلة، وتعد خطوة إنشائه الثانية في تاريخ المنافسة العالمية للولايات المتحدة حيث اتفقت المجموعة العام الماضي في جنوب إفريقيا على إنشاء شبكة إنترنت جديدة لمنافسة للشبكة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية.