احتلت الهندسة المناعية حيزًا هامًا من اهتمام وسائل الإعلام العالمية مؤخرًا، وكثرت التحليلات والآراء العلمية في هذا المجال فلا تخلو نشرة إخبارية من معلومات عن النجاحات الجيدة والآفاق الواعدة في مكافحة هذا المرض، والذي بقي مستعصيًا لسنوات عديدة يحصد أرواح الكثيرين ممن أصيبوا به ولم يجدوا سبيلًا للنجاة.
وتغص الكلمات عند وصف آلام المصابين واللحظات الأخيرة التي قضوها في محاربة المرض، إلا أن الأثر السلبي لهذه التجربة يلحق بالعائلة والأصدقاء ويحتل جزءًا هامًا من ذكرياتهم مع من فقدوا من الأحبة.
بقي العلم عاجزًا لسنوات كثيرة في حل المشكلة بل اقتصر دوره على تخفيف الآثار السلبية وبعض من آلام المصابين، لكن الأمور اليوم تغيرت فبوجود تقنية الخلايا المناعية المعدلة هندسيًا أصبح الأمل يتنامى بشكل أسرع من أعداد المصابين أنفسهم.
منذ سنة تقريبًا وبالتحديد في شهر حزيران الفائت، استطاعت فتاة صغيرة تبلغ من العمر اثنا عشر عامًا في الشفاء من المرض بشكل كامل، كانت ترقد في إحدى مشافي لندن تنتظر المصير المحتوم بعد أن أوقع بيد الكادر الطبي الذي تابع حالاتها منذ سنوات. إلا أن المغامرة التي اتخذها طبيب مشفى جريت أورموند ستريت -بموافقة الأهل -ساعدت الطفلة على الشفاء فتحولت إلى نجمة في عالم الأخبار تحمل قصتها بفخر بين علماء وباحثي الهندسة المناعية. لكن هنالك من استفاد أيضًا مما حدث، إنها شركة سيليكتيس المتخصصة في التكنولوجيا الحيوية.
ما حققته الهندسة المناعية؟
أعطت شركة سيليكتيس للتكنولوجيا الحيوية، وهي شركة مقرها في شرقي مانهاتن الأمريكية وذات أصول فرنسية الإذن للمشفى بتطبيق العلاج الذي ابتكرته سابقًا، وهو عقار يحوي خلايا معدلة هندسيًا تتضمن أربعة تغييرات وراثية، إثنين من هذه التعديلات تمت عبر تقنية جديدة لتعديل الجينيوم.
تعرف هذه التقنية باسم TALENs حيث تعمل على تعديل وإصلاح الحمض النووي في الخلايا الحية، وعلى الرغم من أن العقار لم ينهي التجارب السريرية، ولم يختبر سوى على الفئران، إلا أن حياة الطفلة وبقائها كان مهدد بالخطر. بالطبع مغامرة كهذه قد تطيح بسمعة الشركة وتخلق لها الكثير من المشاكل مع هيئات وجهات رقابية في موضوع الدواء. لكن ما حدث كان مختلفًا لقد شفيت الفتاة تمامًا وارتفعت أسعار أسهم الشركة إلى مستويات عالية.
يعلق الرئيس التنفيذي لشركة سيليكتيس حول الامر قائلاً ” قدمنا جرعة واحدة من العقار صنعت خلال اختبارات الجودة لقد كان الرهان على انقاذ حياة مريض أو التعرض للانتقادات ثم الاخبار السيئة في حال الفشل ”
كانت الطفلة تعاني من نقص حاد في الخلايا اللمفاوية واحتمالات نجاتها ضئيلة جدًا. لفهم الموقف أكثر من المفيد أن نعرف أن جهاز المناعة البشرية يحوي خلايا تعتبر خط الدفاع الحيوي ضد الأجسام الغربية ومنها الفيروسات، ومع غياب هؤلاء الجنود يصبح البقاء على قيد الحياة أمرًا مستحيلًا.
وجد العلماء في نهاية القرن الماضي طريقة يستطيعون من خلالها التحكم بالخلايا الليمفاوية والتي تسمى بالخلايا القاتلة في الجهاز المناعي البشري، واعتمادا على هذه المعطيات عملت شركة سيليكتيس منذ عام 2011 لتطوير علاج لمرض السرطان.
طريقة العمل بأسلوب مبسط هو أن تحصل على خلايا ليمفاوية من دم شخص ما ثم تهندس هذه الخلايا باستخدام فايروس وحمض نووي جديد لاستهداف خلايا الدم المصابة بالسرطان.
كانت نتائج الأبحاث التي أجريت على 300 مريض متطوع مذهلة، ففي أغلب الحالات شفي المرضى بشكل كامل، ما دفع بشركات التكنولوجيا الحيوية والأدوية إلى الاستثمار في هذا المجال على أمل توفير علاج للمرض. وبلغ الاهتمام ذروته بعد أن تبين أن مثل هذه العقارات قادرة على شفاء كل الامراض المستعصية بما فيها مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) والتصلب اللويحي.
الخلايا اللمفاوية معجزة الجسم البشري.
ستكون العقارات المطورة باستخدام تقنية TALENs أو التقنية الأكثر تطورًا منها التي تدعى CRISPR والمخصصة لتطوير الخلايا المناعية متاحة في الأسواق خلال سنة أو سنتين. ولكن ما لذي تعنيه كل هذه المصطلحات للشركات الرائدة في مجال العلاج المناعي كشركة سيليكتيس وشركة جونو للتداوي وشركة نوفارتيس.
يطلق على الجهاز المناعي للإنسان اسم سلاح الدمار الشامل الطبيعي، ويتكون من آلاف بل ملايين الخلايا الليمفاوية التي تعمل على الدفاع عن الجسم في وجه الفيروسات أو الاجسام الغريبة. هو بذلك يجنب الانسان وانسجة الجسد الأذية عبر التعرف على الخطر تدميره على الفور، ويعتمد بذلك على ذاكرة صلبة تحوي معلومات عن الأمراض والفيروسات تستند بشكل أساسي على اللقاحات التي تعطى للطفل لتدريب الخلايا.
قبل أكثر من 100 عام حاول طبيب جراح أمريكي يدعى وليام كولي حقن مرضى السرطان بجراثيم تسبب التهاب الحلق وغيرها من الأمراض، وحقق بعض النجاحات في تقليص الأورام، لكن ذلك غير كافي حتى تلك اللحظة. ما دفع الطبيب في محاولاته البدائية لتجربة الأمر هو ملاحظة تلاشي السرطان عند بعض الأشخاص بعد اصابتهم بعدوى ما.
لم يكن مفهومًا تمامًا ما الذي يحدث، إلا أن علوم اليوم قدمت تفسيرًا يمكن الاستناد عليه في تطوير علاج الأمراض المستعصية. فالخلايا الليمفاوية تقوم عادة بالزحف وتتحرك باستقلالية لجميع نقاط الجسم وتشرع في التعرف على كل الخلايا المتواجدة. وصدق أو لا هي تتحدث بلغة خاصة مع هذه الخلايا وبعد هذا الحوار تقرر هي بمفردها ما يجب فعله؟ هل تهاجم الخلية التي أمامها وتقتلها أم تتابع العمل في مسح كامل الجسم.
كان هذا محور تصريح عالم الأحياء من معهد كوتش لأبحاث السرطان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فيليب شارب والحائز على جائزة نوبل للطب عام 1993، حيث يقول شارب ” مازلنا كطفل صغير يبلغ 5 سنوات من العمر إذا ما حسبنا معرفتنا لهذه اللغة والعلاقة بين الخلايا، نحن نحاول فهم هذه الأمور لاستثمارها في انتاج خلايا مناعية تقضي على السرطان”
بالعودة إلى الخلايا التي عدلتها شركة سيليكتيس فجميع طرق المعالجة السابقة كان تعتمد على الخلايا الليمفاوية الخاصة بالشخص نفسه، ولكن بعض المرضى وخاصة الأطفال الصغار لا يوجد لديهم ما يكفي من هذه الخلايا حتى يتم تعديلها، وكذلك الخلايا اللمفاوية الخاصة بجسم ما هي مبرمجة لنفس الشخص ما يعني ان خلط الخلايا سيعني مهاجمتها لبعضها البعض والموت بنيران صديقة.
ويكمن الحل بنظر سيليكتيس باستخدام التعديل الجيني لتصنيع مخزون عالمي من الخلايا الليمفاوية المعدلة هندسياً من دماء المتبرعين مع المحافظة على جوهرها البسيط، عبر إضافة الحمض النووي الجديد وبنفس التقنية ستحذف مستقبلات الخلايا الليمفاوية التي ترصد عادة الجزيئات غريبة المظهر في الجسم، ما يجعل الاقتتال محظرًا بين الخلايا اللمفاوية مختلفة المصدر ويوحد جهودها لمواجهة العدو الواحد وهو المرض.
يبقى الهدف النهائي من الأبحاث هو القدرة على تغيير الأوامر الجينية داخل الخلية الليمفاوية، شيء يمكن أن يكون أسهل لإنتاج أدوية ذكية.