لطالما راودت فكرة إلغاء الحدود وقيود السفر بين الدول أذهان العديد من البشر والمفكرين في العالم، فكرة نالت الكثير من الترويج من قبل المؤمنين بها خصوصاً في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت.
ببساطة فكرة “العالم بلا حدود” تدعوا لإلغاء أي حواجز مصطنعة أو قانونية تمنع فرداً من السفر من بلد لآخر بسبب انتمائه لجنسية معينة أو عرق أو دين معين، وتنادي بضرورة السماح للبشر بالتنقل للعيش والعمل ضمن أي بيئة أو مجتمع يرغبون في الانضمام إليه، الأمر الذي عززه عصر الإنترنت حيث سهل التواصل الكبير بين البشر من مختلف دول العالم.
ذروة النقاش حول موضوع حرية التنقل وفتح الحدود للجميع شهدته سنتا 2014 و2015 مع تدفق المهاجرين بأعداد هائلة إلى أوروبا حيث وصل العدد إلى أكثر من مليون لاجئ بحسب بعض الإحصاءات.
اللاجئون الذين انتقلوا إلى أوروبا هرباً من الحرب أو بحثاً عن حياة أفضل بعيداً عن الفقر الذي يعانونه في بلدانهم، قوبلوا في البداية بتوجه ليبرالي مرحب بشدة، توجه سرعان ما خمد مع التزايد الكبير في أعداد المهاجرين، ليظهر مكانه توجه آخر مختلف تماماً وهو التوجه المعارض بشدة لاستقبال اللاجئين.
التوجه المعارض للجوء قادته أحزاب يمينية متطرفة مثل الجبهة الوطنية في فرنسا وحزب استقلال بريطانيا، ودعا أنصار هذا الاتجاه إلى منع المهاجرين من الوصول إلى القارة العجوز خوفاً من تأثيرهم السلبي على الاقتصاد في دولها والإضرار بقيم المجتمعات الأوروبية، إضافة للتخوف الكبير من المتطرفين الذين قد يعيشون بين اللاجئين، وكل ذلك بحسب كلام المتحدثين ومؤيدي تلك التوجهات اليمينية.
هل سنحقق مكاسب اقتصادية من عالم بلا حدود؟
خصوم فكرة فتح الحدود بين الدول يستعملون الأرقام الاقتصادية كأداة لمهاجمة تلك الفكرة، لكنهم يركزون على الوضع الحالي للاقتصاد العالمي والذي تقلص بنسبة 5% ويعتبرون أن القيود على الهجرة وانتقال العمالة بشكل حر ساعدت على إبقاء نسبة التقلص في هذا الحد.هم نفسهم من نجح في إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لكن إذا ألقينا نظرة متمعنة على بعض البحوث الاقتصادية والأرقام سنفاجأ بالعكس تماماً، فمؤخراً أظهر مسح رأي أن 40% من الذكور البالغين في الربع الأفقر من دول العالم يرغبون في الانتقال الدائم للعمل في دول قوية اقتصادياً، وصحيح أن العديد منهم غير مؤهلون لذلك لكن يبقى الكثير منهم يملكون المؤهلات ولا يستطيعون الانتقال بسبب عقبات الهجرة.
انتقال الجماعات البشرية بهذه النسب الكبيرة سوف يكسب العالم بحسب خبراء اقتصاديين حوالي 50% مما ينتجه الاقتصاد العالمي حالياً، وسبب ذلك بسيط ومعقد في آن واحد ويختصر بجملة واحدة: الإنتاج الاقتصادي للفرد يعتمد على الموقع الجغرافي أكثر من المهارة الشخصية.
مثلاً لنفترض أن لدينا سائق تكسي يحمل الجنسية الإثيوبية، هذا الشخص مهما كان ماهراً في مهنته فإنه لن يجني أكثر من خمسة أو ستة آلاف دولار سنوياً، في حين لو أن هذا الشخص نفسه عمل في مدينة نيويورك الأمريكية فإنه سيجني حوالي 35 ألف دولار سنوياً!
السبب الوحيد لتضاعف الأجر بهذا الشكل هو أن هذا الشخص سيدخل إلى ميزانية مدينة نيويورك مبلغاً أكبر مما يجنيه وبالتأكيد أكبر بكثير مما كان سيدخله إلى ميزانية إثيوبيا رغم قيامه بنفس العمل، فإذاً الحقيقة الواضحة هي أن تغيير الموقع الجغرافي للعامل نحو اقتصاد أكثر قوة سيغني الاقتصاد العالمي ومنعه من الانتقال سيحرم الاقتصاد من هذه الأرباح.
فتح الحدود للعمالة الماهرة والراغبين في الدراسة والبحث العلمي، وكذلك الفئات البشرية عالية الولادات سوف يقوي الاقتصاد ويسرع عجلة التطور في المجتمعات وبالتالي سيحقق مكاسب كبيرة على الصعيد العالمي ليس فقط اقتصادياً بل علمياً وثقافياً.
العديد من معارضي الأفكار المتجاوزة للحدود يملكون مخاوفاً من أن أي زيادة في الهجرة حول العالم حتى لو كانت ضئيلة سوف تؤثر بشكل سيء على مجتمعاتهم واقتصادياتها، ولكن نفس المخاوف راودت المجتمع الأمريكي المحافظ والسلطات الأمريكية في بدايات القرن العشرين ومنذ ذلك الوقت تضاعف عدد سكان أمريكا أربعة مرات بنسب كبيرة من المهاجرين، وها هو الاقتصاد الأمريكي رغم كل الأزمات لا يزال الاقتصاد الأقوى في عالمنا اليوم.
واقع وآمال
لا يبدو أن العالم اليوم قريب من أي إجراء بإلغاء الحدود في أي منطقة منه، بل وإن إجراءات الهجرة في دول العالم الأول قد زادت صعوبة خصوصاً بعد أزمة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي، حيث يسود اعتقاد لدى التوجه اليميني أن أزمة اللاجئين كانت نتيجة (مؤامرة) بين أصحاب فكرة إلغاء الحدود والمهاجرين أصحاب الفكر العشائري!
دول مثل أعضاء الاتحاد الأوروبي تجد نفسها اليوم عالقة بين تصريحاتها الدائمة لدعم التحركات الديمقراطية ومحاربة الفساد كحل لأزمات الدول الفقيرة وتحمل النتائج السلبية لتلك التحركات مثل الهجرة، والتي تحاول اليوم التملص من مسؤوليتها الإنسانية تجاهها.
الاتجاه الداعي لإلغاء الحدود بين الدول يواجه حالياً ضغطاً اجتماعياً كبيراً في محاولة لعزل أفكاره التي يعتبرها البعض غير منطقية، لكن على الجانب الآخر فإن فكرة “عمل المرأة” التي تبدو اليوم بديهية وطبيعية جداً كانت تعتبر قبل عقود من الآن فكرة متمردة ومهددة للمجتمع، إذ كان من المستهجن أن تسأل رجلاً يملك شركة لم لا يسمح للنساء بالعمل في شركته!
أما اليوم فمن البديهي عدم مناقشة عمل المرأة في المجتمعات المتحضرة، وبالتالي فإن المجتمع هو الذي يقرر ما هي الأفكار الطبيعية وما هي الأفكار اللامنطقية أو الغير القابلة للجدال، والزمن هو العامل الرئيسي في حصول تلك التغيرات الجذرية في أفكار الأفراد.
التفكير في أن ينتقل البشر بحرية مطلقة تبدو اليوم فكرة وردية بعيدة المنال نوعاً ما، لكن من يدري ربما تصبح في السنوات القادمة موضوع النقاش الأول أو قد تتحول لمطلب شعبي في بعض الدول، الزمن كفيل بتغيير أي شيء.