التصويت لخروج بريطانيا من دول الاتحاد الأوربي وما يترتب على ذلك من تبعات سياسية واقتصادية على المملكة المتحدة وعملتها الجنيه الإسترليني، كان محور حديث الأسواق التي تفاعلت بطريقة مختلفة مع الأنباء الواردة من عاصمة الضباب الإنكليزية لندن خاصة مع اقتراب موعد التصويت على القرار النهائي خلال الشهر الجاري وبالتحديد يوم 23 حزيران.
بقيت التوقعات والتفسيرات متضاربة لحد كبير ومدفوعة بالتغطية الإعلامية لوسائل الإعلام البريطانية، في بعض الأحيان تتردد إشاعات عن ان نتيجة التصويت محسومة لصالح الخروج من المنطقة الأوروبية، وفي أحيان أخرى تظهر التحليلات التي تؤكد استحالة فك الارتباط بالطريقة التقليدية البسيطة. بل يذهب البعض في قراءاتهم إلى أبعد من ذلك ليقولوا إن القرار في حال اتخذ سيكون كارثيًا.
تعود هذه الفوضى في واقع الأمر إلى التجاذبات السياسية بين فريق إدارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون المناصر مع فريقه للبقاء من جهة وبين الحملة العنيفة التي تشنها صحيفة الصن البريطانية المعروفة من جهة ثانية حيث شكلت الأخيرة تحالفًا من الجماهير التي تدعو باستمرار للخروج من منطقة اليورو.
ولكن هل فعلًا تعبر الصحيفة عن الرأي الغالب لجماهير قرائها؟ أم انها تنفذ حملة علاقات عامة ضخمة للتأثير على الناس؟ حتى نستطيع الإجابة لابد لنا من متابعة الحكاية منذ بدايتها قبل حوالي 50 عامًا مضت.
لماذا تطلب صحيفة الصن البريطانية التصويت بلا للبقاء؟
لا تظهر التغطية الإعلامية للصحيفة مفاجأة كبيرة لمتابعيها أكثر مما تعطي رمزية هامة عما هي الأحوال في بريطانيا اليوم. فعلى مدار الأربعين عامًا السابقة لم تكن الصحيفة التي تصنف كأبرز الصحف الشعبية واسعة الانتشار او ما يعرف بالصحف الصفراء التي تعتمد على المانشيت الأحمر والعناوين المثيرة للجدل، لم تكن ليوم واحد تدعم فكرة الاتحاد الأوروبي، بل بقيت طوال تلك الفترة مشككة في جدوى البقاء ضمن هذا التحالف السياسي الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن الصحيفة نفسها كانت قد طلبت من جمهورها تأكيد فكرة توسيع اتفاقية السوق الأوروبية المشتركة عام 1975، إلا أنها وفي وقت قياسي لم يتجاوز بضعة سنوات غيرت رأيها ببساطة واتخذت موقفًا معاديًا بشدة للاتحاد الأوروبي لاحقًا، بل ذهبت لأبعد من ذلك حين احتقرت وازدرت المشروع منذ عام 1981 عبر تغطياتها الصحفية للموضوع.
يحوي أرشيف الصحيفة كم هائل من المقالات الافتتاحية ومواد الرأي التي هاجمت رموز المشروع، وخاصة رئيس المفوضية الأوروبية جاكوب ديلور في عام 1990 حيث طلبت الصحيفة من قرائها أن يخبروا ” الأحمق الفرنسي” بحسب وصفها ما الذي يجب عليه فعله في مشروعه الاقتصادي الطموح.
تاريخيًا يعود ظهور الاتحاد الأوروبي لمعاهدة روما 1957 التي تعد التاريخ الفعلي لقيام السوق الأوروبية المشتركة، كان المشروع حينها سوق أوروبية مشتركة تحمل ملامح تجمع اقتصادي وسياسي وافق عليه وزراء خارجية ست دول هي فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية (قبل اتحاد البلاد) وبلجيكا وهولندا ولكسمبورغ. لكن صحيفة الصن لم تترك فرصة للتصدي لمحاولات الترويج أو التلميع للاتحاد الأوروبي.
في شهادة روبرت هوتن أحد المحررين المساعدين ممن بقي يعمل في الصحيفة لخمس سنوات، قال الأخير انه ” لا يمكن اتهام الصحيفة بخداع الجماهير او تغير قناعاتهم، والسبب ببساطة أن جميع الحملات التي شنتها الصحيفة كانت تلاقي رضى وابتهاج وحماس القراء”، ويتذكر هوتن كيف طلب آلاف القراء من الصحيفة تزويدهم بشعارات تتضامن مع الموقف البريطاني الشعبي من الحرب المزعومة حول تصدير الخراف الإنكليزية إلى فرنسا عام 1984.
دراسة التغطية الإعلامية للصحيفة على مدى سنوات عملها تظهر كمية كبيرة من العنصرية تجاه الفرنسيين والألمان، وعلى الرغم من لغة الكراهية تجاه الأجانب تلاشت بعض الشيء إلا أنها تعود اليوم للظهور مع افتتاحية الصحيفة التي طالبت البريطانيين بالإيمان ببلدهم والتصويت ب (لا) يوم 23 حزيران.
روبيرت مردوخ يدعم خروج بريطانيا!
رغبة الصحيفة في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يدعهما الكثير من المحررين والعاملين في الصحيفة مثل تريفور كافانا وتوني غالاغر لكن الداعم الأكبر لهذا الخيار هو روبيرت مردوخ الغني عن التعريف، حيث تعتبر صحيفة الصن البريطانية أحد شركات تايكون للأعلام العالمي ومن المستبعد أن تجرؤ الصحيفة على طباعة افتتاحية بهذا الشكل دون موافقته.
تبرر الصحيفة حملتها بالقول إنها استمرار لموقفها المعلن منذ 40 عامًا، فهي تقول للبريطانيين أنه يتوجب عليهم التحرر من ديكتاتورية بروكسل، وأن الالمان سيستمرون في التوسع لاجتياح بريطانيا ولا يوجد ما يوقف ذلك إلا التصويت ب (لا).
عودة أصوات الكراهية تجاه الاجانب للظهور العلني ترافقت مع سخرية لاذعة من رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي حاول الحديث عن فوائد البقاء في الاتحاد الأوروبي، فما كان من الصحيفة إلا أن قالت إن حديثه وتفسيراته حمقاء مثله.
بنظر الصحيفة وبحسب الحملة التي تشنها فإن البقاء سيكون اسوأ للهجرة وللوظائف وللأجور ولطريقة حياة البريطانيين، لن تستطيع البلاد مواجهة موجات الهجرة الجماعية مما سيضع ضغوط كارثية على المدارس والمستشفيات والطرق والمساكن كما تزعم الصحيفة. وعلى النقيض من ذلك ستكون بريطانيا أغنى بلد في الاتحاد الأوروبي خاصة إذا استخدمت البلاد نفوذها كخامس أكبر اقتصاد في العالم لإنجاز صفقات تجارية فعالة مع باقي دول العالم التي تشكل 85 بالمائة من الدول.
اما أخطر ما تقوم به الصحيفة فهي وضع الجمهور في مواجهة “هم” الافتراضية، حيث تحارب حملات الترويج للبقاء في الاتحاد بوصفها مؤامرة يقف ورائها شركات ومؤسسات كبيرة تحب اليورو ومتغطرسين من البنوك الأجنبية جميعهم يحارب منذ زمان بعيد من اجل بقاء منطقة اليورو.
عملة بريطانيا على موعد مع تقلبات عنيفة.
المتابع لحركة الأسواق وفشل زوج الاسترليني / اليورو في الحفاظ على الانتعاش البسيط الذي حققه في وقت سابق من الأسبوع، يستطيع أن يشعر بقرب الأيام السوداء. حيث يوضح انخفاض سعر الصرف ليتجاوز خط ‘الدعم’ عند 1.36، حالة عدم اليقين التي يعيشها المتداولين.
وتزداد المخاوف من انتشار عدوى عالمية للتخلص من الباوند وبيعه تحوطًا من المخاطر القادمة، فقضية خروج بريطانيا من منطقة اليورو سيكون لها أثر سلبي كبير على قوة الباوند وحركته خلال الأشهر القادمة خاصة إذا ما تذكرنا كيف تأثر الكيبل في التصويت على استقلال اسكتلندا سابقا.
لكن الأثر هذه المرة سيكون أعنف وأقوى بكثير مما سيؤدي لانخفاض في أسعار الصرف وخسارة الباوند كثيرا من قوته امام حالة من الضبابية الكبيرة وعدم اليقين لمستقبل العملة.