قصة الذهب في السودان متشعبة، فبعد أن فقد السودان ثلاثة أرباع موارده النفطية منذ أعوام عديدة جرّاء انفصال دولة جنوب السودان، والتي كانت تساهم بنسبة 50 % من إيرادات خزينة الدولة، اتجه نحو الذهب ليصبح المورد الرئيسي للإيرادات العامة والنقد الأجنبي في البلاد، حيث ازدهرت خلال العقد الماضي عمليات التنقيب العشوائي عنه وفي أماكن متفرقة، بلغ عددها وفقاً لتقديرات رسمية بحوالي 800 موقع، وبحسب تصريحات الحكومة فإن الذهب يتوفر في جميع ولايات البلاد الـ18 .
ويعمل في قطاع التنقيب عن الذهب نحو مليون مواطن، ويسهم بنسبة 90% من الإنتاج، بينما تساهم الشركات بالنسبة المتبقية عن طريق استخدام التقنيات الحديثة، إلا أن العام الماضي قد شهد انخفاضاً في حجم الذهب المنتج ليبلغ 93 طنّاً، بعد أن بلغ 105 أطنان في العام 2017.
ولكن هذا الانخفاض ليس هو المعضلة الأكبر التي يعاني منها هذا المعدن النفيس، بل هناك مشاكل أخرى تؤثر على حجم إنتاجه وتؤدي إلى تراجعه ومنها عمليات التهريب.
كيف تتوعد عمليات التهريب قطاع الذهب في السودان؟
تعصف عمليات التهريب بقطاع الذهب في السودان، فهي تعد واحدةً من المشاكل الكبيرة التي تؤثر في هذا القطاع الحيوي، فبحسب مصادر حكومية فإن ما جرى تصديره عبر القنوات الرسمية العام الماضي لا يتجاوز 22 طنّاً من مجموع 93 طناً، في حين أن الدولة صدرت في عام 2017 حوالي 30 طناً من حجم إنتاج بلغ 105 أطنان.
أما السبب الذي أدى إلى انتشار عمليات التهريب فهو يعود إلى احتكار التصدير الذي مارسته الحكومة لمدة ست سنوات وبرغم قيامها برفعه مؤخراً، إلا أن ذلك لم يسهم في الحد من ظاهرة التهريب، بسبب وجود عوامل أخرى، منها ندرة النقد الأجنبي في البلاد والفروقات الكبيرة في سعر الدولار بين الأسعار الرسمية والسوق السوداء الموازية، مما دفع بالمنتجين إلى الاستمرار في عمليات التهريب، فضلاً عن صعوبة مراقبة هذه العمليات في بلاد السودان الواسعة، بالإضافة إلى عدم قدرة الحكومة على حصر ما ينتجه المعدنان التقليديان بشكل دقيق.
حيث كانت الحكومة تشتري الذهب من المنتجين بسعر الدولار الرسمي البالغ 47 جنيهاً، بينما يبلغ سعره في السوق السوداء 65 جنيهاً، وهذا الفرق الكبير دفع بالمنتجين إلى تجنب التصدير عبر القنوات الرسمية والحكومية واستبدالها بقنوات التهريب.
عمليات التنقيب والمشكلات الراهنة
ومن المشكلات الأخرى التي تعترض قطاع الذهب في السودان ما تواجهه شركات الإنتاج من مشكلات مرتبطة بسياسات الدولة التي تمنح حق التنقيب وفق اتفاقات قسمة إنتاج بينها وبين الشركة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يبعد المستثمرين.
وهناك أيضاً مشكلة تحويل عائدات المالية إلى الخارج عبر الدولار، حيث يجد غالبية المستثمرين صعوبة في ذلك نسبة لعدم توفر النقد الأجنبي، وصعوبة توفير المواد البترولية أخيراً للآليات العاملة في التنقيب.
ومن العقبات أيضاً ما تواجهه الشركات العاملة في الذهب من حيث الاحتكاكات التي تقع بينها وبين المعدنين الأهليين والمواطنين في كثير من الأحيان، إذ تمنح الحكومة الشركات مناطق للتعدين يعمل بها معدنيون تقليديون، أو تعطيهم حق التنقيب في أراض تعود ملكيتها إلى مواطنين، وعلى الرغم من أنّ الحكومة تعمل على تسوية تلك النزاعات، بيد أنّها تشكّل هاجساً كبيراً للراغبين في الاستثمار.
“بريق” صندوق التداول والاستثمار في الذهب
لا تحتوي السودان على بورصة رسمية مختصة بالذهب برغم انتعاش عمليات التنقيب فيها، حيث قامت الحكومة بإنشاء صندوق للتداول والاستثمار في الذهب تحت مسمى “بريق” وقالت إن الصندوق سيعمل في الـ 12 شهراً المقبلة بصيغة المضاربة في شراء وبيع الذهب.
وأنشئ الصندوق بحد أدنى بلغ مليار جنيه في بداية نشاطه، من أجل تمويل عمليات شراء 24 طنّاً من الذهب، إلا أنه لم يلقَ النجاح المتوقع بسبب عدم قدرة الدولة على توفير النقد الأجنبي للأشخاص والشركات الراغبة في الاكتتاب فيه.
مساعٍ جديدة
تسعى الحكومة السودانية إلى رفع معدلات إنتاج الذهب لتصل إلى المرتبة الأولى إفريقياً، وللقيام بذلك تجري الحكومة عدداً من المسوحات الأرضية التي تكتشف من خلالها مواقع جديدة ، ومؤخراً أعلنت وزارة النفط والمعاجم عن اكتشاف أكبر منجم ذهب في البلاد وبطاقة إنتاجية متوقعة بنحو 7 أطنان سنوياُ.
وتبلغ جملة عائدات البلاد من الصادرات غير البترولية كافة ما يفوق ستة مليارات دولار، يوفر الذهب منها ما نسبته 50 %، بينما توفر الصادرات الأخرى مثل الصمغ العربي والمنتجات الزراعية والحيوانية النصف الآخر.
الطوارئ من جديد
أدت الاحتجاجات التي شهدها السودان منذ كانون الأول ديسمبر الماضي إلى إعلان الرئيس السوداني عمر البشير عن حالة الطوارئ لمدة عام وفي جميع أنحاء البلاد، وتلتها خمسة أوامر طوارئ يتعلق بعضها بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي والمشتقات البترولية، منها حظر حمل وحيازة ما يزيد عن 150 غراماً من الذهب المشغول لأي مسافر خارج السودان عبر جميع المنافذ، وأيضاً منع حمل أو حيازة أو تخزين أي كمية من الذهب الخام أيّا كان شكله عند الأشخاص غير المرخّص لهم بالتصنيع أو التصدير.
قوانين الطوارئ والحد من التهريب
ربما سيكون التساؤل المطروح هو هل ستؤثر قوانين الطوارئ على الحد من عمليات التهريب، وهنا يقول المراقبون المحليون بأنها ستحد من عمليات التهريب إلا أنها لن توقفها، وذلك لأن معظم المنتجين التقليديين يلجؤون إلى تخزين الذهب في مناطق نائية قريبة من مواقع إنتاجه، ولا يعرف حجم المخزون الحقيقي منه، كما تشير التقارير إلى أن السودان ينتج ما يفوق الـ 200 طن من الذهب، التي لا يعرف حتى الآن حجم عائداتها الحقيقية والطرق التي تهرّب بها.
أما في حال تمكنت الحكومة من إنشاء بورصة للذهب، وعملت عبر سياسات أخرى لمعالجة قيمة الدولار بين السعر الرسمي والسوق الموازية، إذ يدفع فرق السعر المنتجين إلى مواصلة التهريب.
يذكر أن السودان قد احتل المرتبة الثالثة إفريقياً من حيث إنتاج الذهب، بعد دولتي جنوب إفريقيا وغانا عام 2017، ومن المتوقع أن يبلغ المرتبة الأولى إفريقياً نهاية العام الحالي، وهو العام الذي قد يشهد تغيرات كبيرة على مستوى الحكومة خصوصاً بعد حل الرئيس السوداني للحكومة، وتسميته محمد طاهر ايلا رئيساً للوزراء، ومن هذه التغيرات إقرار سياسات جديدة للحدّ من تدهور قيمة العملة الوطنية، وتقليل عمليات تهريب الذهب، التي يشير مراقبون إلى أنّ أسبابها الرئيسة هي السياسات الخاطئة للدولة تجاه ذلك القطاع المهم.